فصل: تفسير الآيات رقم (69 - 73)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏

يخبر تعالى عما قيل لنوح، عليه السلام، حين أرست السفينة على الجوديّ، من السلام عليه، وعلى من معه من المؤمنين، وعلى كل مؤمن من ذريته إلى يوم القيامة، كما قال محمد بن كعب‏:‏ دخل في هذا السلام كلّ مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة، وكذلك في العذاب والمتاع كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ ولما أراد أن يكف الطوفان أرسل ريحا على وجه الأرض، فسكن الماء، وانسدت ينابيع الأرض الغمر الأكبر وأبواب السماء، يقول الله تعالى ‏:‏ ‏{‏وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ ‏[‏وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‏]‏‏}‏ فجعل الماء ينقص ويَغيض ويُدْبِرُ، وكان استواء الفلك على الجودي، فيما يزعم أهل التوراة، في الشهر السابع لسبع عشرة ليلة مضت منه، وفي أول يوم من الشهر العاشر، رُئي رءوس الجبال‏.‏ فلما مضى بعد ذلك أربعون يومًا، فتح نوح كُوّة الفُلْك التي ركب فيها، ثم أرسل الغرابَ لينظر له ما صنع الماء، فلم يرجع إليه‏.‏ فأرسل الحمامة فرجعت إليه، لم تجد لرجليها موضعا، فبسط يده للحمامة فأخذها فأدخلها‏.‏ ثم مضى سبعة أيام، ثم أرسلها لتنظر له‏.‏ فرجعت حين أمست، وفي فيها وَرَق زيتون فعلم نوح أن الماء قد قَلّ عن وجه الأرض‏.‏ ثم مكث سبعة أيام، فلم ترجع، فعلم نوح أن الأرض قد بَرَزَت، فلما كملت السنة فيما بين أن أرسل الله الطوفان إلى أن أرسل نوح الحمامة، ودخل يوم واحد من الشهر الأول من سنة اثنتين، برز وجه الأرض، وظهر اليَبَس وكشف نوح غطاء الفلك ورأى وجه الأرض، وفي الشهر الثاني من سنة اثنتين، في سبع وعشرين ليلة منه ‏{‏قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا ‏[‏وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ‏]‏‏}‏ ‏[‏إلى آخر‏]‏ الآية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ‏}‏

يقول تعالى لنبيه ‏[‏ورسوله محمد‏]‏ صلى الله عليه وسلم ‏.‏ هذه القصة وأشباههَا ‏{‏مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ‏}‏ يعني‏:‏ من أخبار الغيوب السالفة نوحيها إليك على وجهها ‏[‏وجليتها‏]‏ ، كأنك شاهدها ، ‏{‏نُوحِيهَا إِلَيْكَ‏}‏ أي‏:‏ نعلمك بها وحيا منا إليك، ‏{‏مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا‏}‏ أي‏:‏ لم يكن عندك ولا عند أحد من قومك علم بها، حتى يقول من يكذبك‏:‏ إنك تعلمتها منه، بل أخبرك الله بها مطابقة لما كان عليه الأمر الصحيح، كما تشهد به كتب الأنبياء قبلك، فاصبر على تكذيب من كذبك من قومك، وأذاهم لك، فإنا سننصرك ونحوطك بعنايتنا، ونجعل العاقبة لك ولأتباعك في الدنيا والآخرة، كما فعلنا ‏[‏بإخوانك‏]‏ بالمرسلين حيث نصرناهم على أعدائهم، ‏{‏إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا ‏[‏فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ‏]‏‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏51، 52‏]‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50 - 53‏]‏

‏{‏وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ولقد أرسلنا، ‏{‏إِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا‏}‏ آمرا لهم بعبادة الله وحده لا شريك له، ناهيا لهم عن ‏[‏عبادة‏]‏ الأوثان التي افتروها واختلقوا لها أسماء الآلهة، وأخبرهم أنه لا يريد منهم أجرة على هذا النصح والبلاغ من الله، إنما يبغي ثوابه ‏[‏على ذلك وأجره‏]‏ من الله الذي فطره ‏{‏أَفَلا تَعْقِلُونَ‏}‏ من يدعوكم إلى ما يصلحكم في الدنيا والآخرة من غير أجرة‏.‏

ثم أمرهم بالاستغفار الذي فيه تكفير الذنوب السالفة، وبالتوبة عما يستقبلون ‏[‏من الأعمال السابقة‏]‏ ومن اتصف بهذه الصفة يسر الله عليه رزقه، وسهل عليه أمره وحفظ ‏[‏عليه‏]‏ شأنه ‏[‏وقوته‏]‏ ؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏11‏]‏، و‏[‏كما جاء‏]‏ وفي الحديث‏:‏ ‏"‏من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هَم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53 - 56‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏

يخبر تعالى ‏[‏إخبارًا عن قوم هود‏]‏ أنهم قالوا لنبيهم‏:‏ ‏{‏مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ‏}‏ أي‏:‏ بحجة ‏[‏ولا دلالة‏]‏ ‏[‏ولا‏]‏ وبرهان على ما تدعيه، ‏{‏وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ‏}‏ أي‏:‏ بمجرد قولك‏:‏ ‏"‏اتركوهم‏"‏ نتركهم، ‏{‏وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏أي‏]‏ بمصدقين، ‏{‏إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ‏}‏ يقولون‏:‏ ما نظن إلا أن بعض الآلهة أصابك بجنون وخبَل في عقلك بسبب نهيك عن عبادتها وعيبك لها ‏{‏قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا‏}‏ ‏[‏أي أنتم أيضا‏]‏ ‏{‏أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ‏}‏ ‏.‏ يقول‏:‏ إني بريء من جميع الأنداد والأصنام، ‏{‏فَكِيدُونِي جَمِيعًا‏}‏ أي‏:‏ أنتم وآلهتكم إن كانت حقا، ‏[‏ف ذروها تكيدني‏]‏ ، ‏{‏ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ‏}‏ أي‏:‏ طرفة عين ‏[‏واحدة‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا‏}‏ أي‏:‏ ‏[‏هي‏]‏ تحت قهره وسلطانه، وهو الحاكم العادل الذي لا يجور في حكمه، فإنه على صراط مستقيم‏.‏

قال الوليد بن مسلم، عن صفوان بن عمرو عن أيفع بن عبد الكلاعي أنه قال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏ قال‏:‏ فيأخذ بنواصي عباده فيلقى المؤمن حتى يكون له أشفق من الوالد لولده ويقال للكافر‏:‏ ‏{‏مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 6‏]‏‏.‏

وقد تضمن هذا المقام حجة بالغة ودلالة قاطعة على صدق ما جاءهم به، وبطلان ما هم عليه من عبادة الأصنام التي لا تنفع ولا تضر، بل هي جَمَاد لا تسمع ولا تبصر، ولا تُوالي ولا تُعادي، وإنما يستحق إخلاص العبادة الله وحده لا شريك له، الذي بيده الملك، وله التصرف، وما من شيء إلا تحت ملكه وقهره وسلطانه، فلا إله إلا هو، ولا رب سواه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57 - 60‏]‏

‏{‏فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ‏}‏

يقول لهم ‏[‏رسولهم‏]‏ هود‏:‏ فإن تولوا عما جئتكم به من عبادة الله ربكم وحده لا شريك له، فقد قامت عليكم الحجة بإبلاغي إياكم رسالة الله التي بعثني بها، ‏{‏وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ‏}‏ يعبدونه وحده لا يشركون به ‏[‏شيئًا‏]‏ ولا يبالي بكم‏:‏ فإنكم لا تضرونه بكفركم بل يعود وَبَال ذلك عليكم، ‏{‏إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ‏}‏ أي‏:‏ شاهد وحافظ لأقوال عباده وأفعالهم ويجزيهم عليها إن خيرا فخير، وإن شرا فشر‏.‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا‏}‏ وهو ‏[‏ما أرسل الله عليهم من‏]‏ الريح العقيم ‏[‏التي لا تمر بشيء إلا جعلته كالرميم‏]‏ فأهلكهم الله عن آخرهم، ونجى ‏[‏من بينهم رسولهم‏]‏ هودا وأتباعه ‏[‏المؤمنين‏]‏ من عذاب غليظ برحمته تعالى ولطفه‏.‏

‏{‏وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ‏}‏ ‏[‏أي‏]‏ كفروا بها، وعَصَوا رسل الله، وذلك أن من كفر بنبي فقد كفر بجميع الأنبياء، لأنه لا فرق بين أحد منهم في وجوب الإيمان به، فعاد كفروا بهود، فنزل كفرهم ‏[‏به‏]‏ منزلة من كفر بجميع الرسل، ‏{‏وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ‏}‏ تركوا اتباع رسولهم الرشيد، واتبعوا أمر كل جبار عنيد‏.‏ فلهذا أتبعوا في هذه الدنيا لعنة من الله ومن عباده المؤمنين كلما ذكروا وينادى عليهم يوم القيامة على رءوس الأشهاد ، ‏{‏أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ ‏[‏أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ‏]‏‏}‏‏.‏

قال السُّدِّي‏:‏ ما بُعث نبي بعد عاد إلا لعنوا على لسانه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ولقد أرسلنا ‏{‏إِلَى ثَمُودَ‏}‏ وهم الذين كانوا يسكنون مدائن الحجر بين تبوك والمدينة، وكانوا بعد عاد، فبعث الله منهم ‏{‏أَخَاهُمْ صَالِحًا‏}‏ فأمرهم بعبادة الله وحده ‏[‏لا شريك له الخالق الرازق‏]‏ ؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ‏}‏ أي‏:‏ ابتدأ خلقكم منها، ‏[‏من الأرض التي‏]‏ خلق منها أباكم آدم، ‏{‏وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا‏}‏ أي‏:‏ جعلكم ‏[‏فيها‏]‏ عُمَّارا تعمرونها وتستغلونها، لسالف ذنوبكم، ‏{‏ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ‏}‏ فيما تستقبلونه؛ ‏{‏إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ‏}‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 186‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62 -63‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ‏}‏

يذكر تعالى ما كان من الكلام بين صالح، عليه السلام، وبين قومه، وما كان عليه قومه من الجهل والعناد في قولهم‏:‏ ‏{‏قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا‏}‏ أي‏:‏ كنا نرجوك في عقلك قبل أن تقول ما قلت‏!‏ ‏{‏أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا‏}‏ وما كان عليه أسلافنا، ‏{‏وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ‏}‏ أي‏:‏ ‏[‏في‏]‏ شك كثير‏.‏

‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي‏}‏ فيما أرسلني به إليكم على يقين وبرهان ‏[‏من الله‏]‏ ، ‏{‏وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ‏}‏ وتركت دعوتكم إلى الحق وعبادة الله وحده، فلو تركته لما نفعتموني ولما زدتموني ‏{‏غَيْرَ تَخْسِيرٍ‏}‏ أي‏:‏ خسارة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏64 - 68‏]‏

‏{‏وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ‏}‏

وتقدم الكلام على هذه القصة مستوفى في سورة ‏"‏الأعراف‏"‏ بما أغنى عن إعادته ها هنا، وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69 - 73‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا‏}‏ وهم الملائكة، إبراهيم بالبشرى، قيل‏:‏ تبشره بإسحاق، وقيل‏:‏ بهلاك قوم لوط‏.‏ ويشهد للأول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 74‏]‏، ‏{‏قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ‏}‏ أي‏:‏ عليكم‏.‏

قال علماء البيان‏:‏ هذا أحسن مما حَيّوه به؛ لأن الرفع يدل على الثبوت والدوام‏.‏

‏{‏فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ‏}‏ أي‏:‏ ذهب سريعا، فأتاهم بالضيافة، وهو عجل‏:‏ فتى البقر،حَنِيذ‏:‏ ‏[‏وهو‏]‏ مَشْوي ‏[‏شيًا ناضجًا‏]‏ على الرّضْف، وهي الحجارة المُحْماة‏.‏

هذا معنى ما روي عن ابن عباس ‏[‏ومجاهد‏]‏ وقتادة ‏[‏والضحاك، والسدي‏]‏ وغير واحد، كما قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏26، 27‏]‏‏.‏ وقد تضمَّنت هذه الآية آداب الضيافة من وجوه كثيرة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ‏}‏ تَنَكرهم، ‏{‏وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً‏}‏ وذلك أن الملائكة لا همة لهم إلى الطعام ولا يشتهونه ولا يأكلونه؛ فلهذا رأى حالهم معرضين عما جاءهم به، فارغين عنه بالكلية فعند ذلك نَكرهم، ‏{‏وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً‏}‏‏.‏

قال السدّي‏:‏ لما بعث الله الملائكة لقوم لوط أقبلت تمشي في صُور رجال شبان حتى نزلوا على إبراهيم فتضيفوه، فلما رآهم ‏[‏إبراهيم‏]‏ أجَلَّهم، ‏{‏فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ‏}‏ فذبحه ثم شواه في الرضف ‏.‏ ‏[‏فهو الحنيد حين شواه‏]‏ وأتاهم به فقعد معهم، وقامت سارة تخدمهم فذلك حين يقول‏:‏ ‏"‏وامرأته قائمة وهو جالس‏"‏ في قراءة ابن مسعود‏:‏ ‏"‏فلما قَربه إليهم قال ألا تأكلون قالوا‏:‏ يا إبراهيم إنا لا نأكل طعاما إلا بثمن‏.‏ قال فإن لهذا ثمنا‏.‏ قالوا وما ثمنه‏؟‏ قال‏:‏ تذكرون اسم الله على أوله، وتحمدونه على آخره فنظر جبريل إلى ميكائيل فقال‏:‏ حُق لهذا أن يتخذه ربه خليلا‏"‏، ‏{‏فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ‏}‏ يقول‏:‏ فلما رآهم لا يأكلون فزع منهم، وأوجس منهم خيفة، فلما نظرت إليه سارة أنه قد أكرمهم وقامت هي تخدمهم، ضحكت وقالت‏:‏ عجبا لأضيافنا هؤلاء، ‏[‏إنا‏]‏ نخدمهم بأنفسنا كرامة لهم، وهم لا يأكلون طعامنا‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا علي بن الحسين، حدثنا نصر بن علي، ‏[‏حدثنا‏]‏ نوح بن قيس، عن عثمان بن مِحْصن في ضيف إبراهيم قال‏:‏ كانوا أربعة‏:‏ جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، ورفائيل‏.‏ قال نوح بن قيس‏:‏ فزعم نوح بن أبي شداد أنهم لما دخلوا على إبراهيم، فقرب إليهم العجل، مسحه جبريل بجناحه، فقام يدرج حتى لحق بأمه، وأم العجل في الدار‏.‏

وقوله تعالى إخبارا عن الملائكة‏:‏ ‏{‏قَالُوا لا تَخَفْ ‏[‏إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ‏]‏‏}‏ أي قالوا‏:‏ لا تخف منا، إنا ملائكة أرسلنا إلى قوم لوط لنهلكهم ‏.‏ فضحكت سارة استبشارًا ‏[‏منها‏]‏ بهلاكهم، لكثرة فسادهم، وغِلَظ كفرهم وعنادهم، فلهذا جوزيت بالبشارةبالولد بعد الإياس‏.‏

وقال قتادة‏:‏ ضحكت ‏[‏امرأته‏]‏ وعجبت ‏[‏من‏]‏ أن قوما يأتيهم العذاب وهم في غفلة ‏[‏فضحكت من ذلك وعجبت فبشرناها بإسحاق‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ‏}‏ قال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏فَضَحِكَتْ‏}‏ أي‏:‏ حاضت‏.‏

وقول محمد بن قيس‏:‏ إنها إنما ضحكت من أنها ظنت أنهم يريدون أن يعملوا كما يعمل قوم لوط، وقول الكلبي إنها إنما ضحكت لما رأت من الروع بإبراهيم -ضعيفان جدا، وإن كان ابن جرير قد رواهما بسنده إليهما، فلا يلتفت إلى ذلك، والله أعلم‏.‏

وقال وهب بن مُنَبِّه‏:‏ إنما ضحكت لما بشرت بإسحاق‏.‏ وهذا مخالف لهذا السياق، فإن البشارة صريحة مُرتبة على‏.‏

‏{‏فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ‏}‏ أي‏:‏ بولد لها يكون له ولد وعقب ونسل؛ فإن يعقوب ولد إسحاق، كما قال في آية البقرة‏:‏ ‏{‏أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 133‏]‏‏.‏

ومن هاهنا استدل من استدل بهذه الآية، على أن الذبيح إنما هو إسماعيل، وأنه يمتنع أن يكون هو إسحاق؛ لأنه وقعت البشارة به، وأنه سيولد له يعقوب، فكيف يؤمر إبراهيم بذبحه وهو طفل صغير، ولم يولد له بعد يعقوب الموعود بوجوده‏.‏ ووعد الله حق لا خُلْفَ فيه، فيمتنع أن يؤمر بذبح هذا والحالة هذه، فتعين أن يكون هو إسماعيل وهذا من أحسن الاستدلال وأصحه وأبينه، ولله الحمد‏.‏

‏{‏قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا ‏[‏إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ‏]‏‏}‏ حكى قولها في هذه الآية، كما حكى فعلها في الآية الأخرى، فإنها‏:‏ ‏{‏قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ‏}‏ وفي الذاريات‏:‏ ‏{‏فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 29‏]‏، كما جرت به عادة النساء في أقوالهن وأفعالهن عند التعجب‏.‏ ‏{‏قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ قالت الملائكة لها، لا تعجبي من أمر الله، فإنه إذا أراد شيئًا أن يقول له‏:‏ ‏"‏كن‏"‏ فيكون، فلا تعجبي من هذا، وإن كنت عجوزا ‏[‏كبيرة‏]‏ عقيما، وبعلك ‏[‏وهو زوجها الخليل عليه السلام، وإن كان‏]‏ شيخا كبيرا، فإن الله على ما يشاء قدير‏.‏

‏{‏رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ‏}‏ أي‏:‏ هو الحميد في جميع أفعاله وأقواله محمود، ممجد في صفاته وذاته؛ ولهذا ثبت في الصحيحين أنهم قالوا‏:‏ قد علمنا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ قولوا‏:‏ ‏"‏اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على ‏[‏إبراهيم و‏]‏ آل إبراهيم، إنك حميد مجيد‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74 - 76‏]‏

‏{‏فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ‏}‏

يخبر تعالى عن ‏[‏خليله‏]‏ إبراهيم، عليه السلام، أنه لما ذهب عنه الروع، وهو ما أوْجَس من الملائكة خيفة، حين لم يأكلوا، وبشروه بعد ذلك بالولد ‏[‏وطابت نفسه‏]‏ وأخبروه بهلاك قوم لوط، أخذ يقول كما قال ‏[‏عنه‏]‏ سعيد بن جبير في الآية قال‏:‏ لما جاءه جبريل ومن معه، قالوا له ‏{‏إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ ‏[‏إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ‏]‏‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 31‏]‏، قال لهم ‏[‏إبراهيم‏]‏ أتهلكون قرية فيها ثلاثمائة مؤمن‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ أفتهلكون قرية فيها مائتا مؤمن‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ أفتهلكون قرية فيها أربعون مؤمنا‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ ثلاثون‏؟‏ قالوا لا حتى بلغ خمسة قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ أرأيتكم إن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ فقال إبراهيم عليه السلام عند ذلك‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ‏}‏ الآية ‏[‏العنكبوت‏:‏32‏]‏، فسكت عنهم واطمأنت نفسه‏.‏

وقال قتادة وغيره قريبا من هذا -زاد ابن إسحاق‏:‏ أفرأيتم إن كان فيها مؤمن واحد‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فإن كان فيها لوط يدفع به عنهم العذاب، قالوا‏:‏ ‏{‏نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا ‏[‏لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ‏]‏‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏32‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ‏}‏ مدح إبراهيم بهذه الصفات الجميلة، وقد تقدم تفسيرها ‏[‏في سورة براءة‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ‏[‏وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ‏]‏‏}‏

أي‏:‏ إنه قد نفذ فيهم القضاء، وحَقَّت عليهم الكلمة بالهلاك، وحلول البأس الذي لا يُرد عن القوم المجرمين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77 - 79‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ‏}‏

يخبر تعالى عن قُدوم رسله من الملائكة بعد ما أعلموا إبراهيم بهلاكهم، وفارقوه وأخبروه بإهلاك الله قوم لوط هذه الليلة‏.‏ فانطلقوا من عنده، فأتوا لوطا عليه السلام، وهو -على ما قيل -في أرض له ‏[‏يعمرها‏]‏ وقيل‏:‏ ‏[‏بل كان‏]‏ في منزله، ووردوا عليه وهم في أجمل صورة تكون، على هيئة شبان حسان الوجوه، ابتلاء من الله ‏[‏واختبارا‏]‏ وله الحكمة والحجة البالغة، ‏[‏فنزلوا عليه‏]‏ فساءه شأنهم وضاقت نفسه بسببهم، وخشي إن لم يُضِفْهم أن يضيفهم أحد من قومه، فينالهم بسوء، ‏{‏وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ‏}‏‏.‏

قال ابن عباس ‏[‏ومجاهد وقتادة ومحمد بن إسحاق‏]‏ وغير واحد ‏[‏من الأئمة‏]‏ شديد بلاؤه وذلك أنه علم أنه سيدافع ‏[‏قومه‏]‏ عنهم، ويشق عليه ذلك‏.‏

وذكر قتادة أنهم أتوه وهو في أرض له ‏[‏يعمل فيها‏]‏ فتضيّفوه فاستحيا منهم، فانطلق أمامهم وقال لهم في أثناء الطريق، كالمعرض لهم بأن ينصرفوا عنه‏:‏ إنه والله يا هؤلاء ما أعلم على وجه الأرض أهل بلد أخبث من هؤلاء‏.‏ ثم مشى قليلا ثم أعاد ذلك عليهم، حتى كرره أربع مرات قال قتادة‏:‏ وقد كانوا أمروا ألا يهلكوهم حتى يشهد عليهم نبيهم بذلك‏.‏

وقال السدي‏:‏ خرجت الملائكة من عند إبراهيم نحو قرية لوط فبلغوا نهر سدون نصف النهار، ولقوا بنت لوط تستقي ‏[‏من الماء لأهلها وكانت له ابنتان اسم الكبرى رثيا والصغرى زغرتا‏]‏ فقالوا ‏[‏لها‏]‏ يا جارية، هل من منزل‏؟‏ فقالت ‏[‏لهم‏]‏ مكانكم حتى آتيكم، وفَرقت عليهم من قومها، فأتت أباها فقالت‏:‏ يا أبتاه، أدرك فتيانا على باب المدينة، ما رأيت وجوه قوم ‏[‏هي‏]‏ أحسن منهم، لا يأخذهم قومك فيفضحوهم، و‏[‏قد‏]‏ كان قومه نهوه أن يضيف رجلا فقالوا‏:‏ خل عنا فلْنُضِف الرجال‏.‏ فجاء بهم، فلم يعلم بهم أحد إلا أهل بيته فخرجت امرأته فأخبرت قومها ‏[‏فقالت‏:‏ إن في بيت لوط رجالا ما رأيت مثل وجوههم قط‏]‏ ، فجاءوا يهرعون إليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ‏}‏ أي‏:‏ يسرعون ويهرولون ‏[‏في مشيتهم ويجمرون‏]‏ من فرحهم بذلك ‏[‏وروي في هذا عن ابن عباس ومجاهد والضحاك والسدي وقتادة وشمر بن عطية وسفيان بن عيينة‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ‏}‏ أي‏:‏ لم يزل هذا من سجيتهم ‏[‏إلى وقت آخر‏]‏ حتى أخذوا وهم على ذلك الحال‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ‏}‏ يرشدهم إلى نسائهم، فإن النبي للأمة بمنزلة الوالد ‏[‏للرجال والنساء‏]‏ ، فأرشدهم إلى ما هو أنفع لهم في الدنيا والآخرة، كما قال لهم في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 165، 166‏]‏، وقوله في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏70‏]‏ أي‏:‏ ألم ننهك عن ضيافة الرجال ‏{‏قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ‏.‏ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏71، 72‏]‏، وقال في هذه الآية الكريمة‏:‏ ‏{‏هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ لم يكن بناته، ولكن كن من أمَّتِهِ، وكل نبي أبو أمَّتِه‏.‏

وكذا روي عن قتادة، وغير واحد‏.‏ وقال ابن جُرَيْج‏:‏ أمرهم أن يتزوجوا النساء، ولم يعرض عليهم سفاحا‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏:‏ يعني نساءهم، هن بَنَاته، وهو أب لهم ويقال في بعض القراءات النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم‏.‏

وكذا روي عن الربيع بن أنس، وقتادة، والسدي، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي‏}‏ أي‏:‏ اقبلوا ما آمركم به من الاقتصار على نسائكم ، ‏{‏أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ‏}‏ أي‏:‏ ‏[‏ليس منكم رجل‏]‏ فيه خير، يقبل ما آمره به، ويترك ما أنهاه عنه‏؟‏

‏{‏قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ‏}‏ أي‏:‏ إنك تعلم أن نساءنا لا أرب لنا فيهن ولا نشتهيهن، ‏{‏وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ‏}‏ أي‏:‏ ليس لنا غرض إلا في الذكور، وأنت تعلم ذلك، فأي حاجة في تكرار القول علينا في ذلك‏؟‏

قال السدي‏:‏ ‏{‏وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ‏}‏ إنما نريد الرجال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80 - 81‏]‏

‏{‏قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ‏}‏

يقول تعالى مخبرًا عن نبيه لوط، عليه السلام‏:‏ إن لوطا توعدهم بقوله ‏:‏ ‏{‏لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً ‏[‏أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ‏]‏‏}‏ أي‏:‏ لكنت نكلت بكم وفعلت بكم الأفاعيل ‏[‏من العذاب والنقمة وإحلال البأس بكم‏]‏ بنفسي وعشيرتي، ولهذا ورد في الحديث، من طريق محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏رحمة الله على لوط، لقد كان يأوي إلى ركن شديد -يعني‏:‏ الله عز وجل -فما بعث الله بعده من نبي إلا في ثروة من قومه‏"‏‏.‏

‏[‏وروي من حديث الزهري عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعًا ومن حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة به، ومن حديث ابن لهيعة عن أبي يونس سمع أبا هريرة به وأرسله الحسن وقتادة‏]‏‏.‏

فعند ذلك أخبرته الملائكة أنهم رُسل الله إليه، و‏[‏وبشروه‏]‏ أنهم لا وصول لهم إليه ‏[‏ولا خلوص‏]‏ ‏{‏قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ‏}‏ وأمروه أن يسري بأهله من آخر الليل، وأن يتَّبع أدبارهم، أي‏:‏ يكون ساقة لأهله، ‏{‏وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ‏}‏ أي‏:‏ إذا سمعت ما نزل بهم، ولا تهولنَّكم تلك الأصوات المزعجة، ولكن استمروا ذاهبين ‏[‏كما أنتم‏]‏‏.‏

‏{‏إِلا امْرَأَتَكَ‏}‏ قال الأكثرون‏:‏ هو استثناء من المثبت وهو قوله‏:‏ ‏{‏فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ‏}‏ تقديره ‏{‏إِلا امْرَأَتَكَ‏}‏ وكذلك قرأها ابن مسعود ونصب هؤلاء امرأتك؛ لأنه من مثبت،فوجب نصبه عندهم‏.‏

وقال آخرون من القراء والنحاة‏:‏ هو استثناء من قوله‏:‏ ‏{‏وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَكَ‏}‏ فجَّوزوا الرفع والنصب، وذكر هؤلاء ‏[‏وغيرهم من الإسرائيليات‏]‏ أنها خرجت معهم، وأنها لما سمعت الوَجْبَة التفتت وقالت واقوماه‏.‏ فجاءها حجر من السماء فقتلها‏.‏

ثم قربوا له هلاك قومه تبشيرًا له؛ لأنه قال لهم‏:‏ ‏"‏أهلكوهم الساعة‏"‏، فقالوا‏:‏ ‏{‏إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ‏}‏ هذا وقومُ لُوطِ وقُوف على الباب وعُكوف قد جاءوا يُهرعون إليه من كل جانب، ولوط واقف على الباب يدافعهم ويردعهم وينهاهم عما هم فيه، وهم لا يقبلون منه، بل يتوعدونه، فعند ذلك خرج عليهم جبريل، عليه السلام، فضرب وجوههم بجناحه، فطمس أعينهم، فرجعوا وهم لا يهتدون الطريق، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ‏[‏وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ‏]‏‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏37 -39‏]‏‏.‏

وقال مَعْمَر، عن قتادة، عن حذيفة بن اليمان قال‏:‏ كان إبراهيم، عليه السلام، يأتي قوم لوط، فيقول‏:‏ أنَهاكم الله أن تَعَرّضوا لعقوبته‏؟‏ فلم يطيعوه، حتى إذا بلغ الكتاب أجله ‏[‏لمحل عذابهم وسطوات الرب بهم قال‏]‏ انتهت الملائكة إلى لوط وهو يعمل في أرض له، فدعاهم إلى الضيافة فقالوا‏:‏ إنا ضيوفك الليلة، وكان الله قد عهد إلى جبريل ألا يُعذبهم حتى يشهد عليهم لوط ثلاث شَهادات فلما توجه بهم لوط إلى الضيافة، ذكر ما يعمل قومه من الشر ‏[‏والدواهي العظام‏]‏ ، فمشى معهم ساعة، ثم التفت إليهم فقال‏:‏ أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية‏؟‏ ما أعلم على وجه الأرض شرا منهم‏.‏ أين أذهب بكم‏؟‏ إلى قومي وهم ‏[‏من‏]‏ أشر خلق الله، فالتفت جبريل إلى الملائكة فقال‏:‏ احفظوها هذه واحدة‏.‏ ثم مشى معهم ساعة، فلما توسط القرية وأشفق عليهم واستحيا منهم قال‏:‏ أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية‏؟‏ ما أعلم على وجه الأرض أشر منهم، إن قومي أشر خلق الله‏.‏ فالتفت جبريل إلى الملائكة فقال‏:‏ احفظوا، هاتان اثنتان، فلما انتهى إلى باب الدار بكى حياء منهم وشفقة عليهم فقال إن قومي أشر من خلق الله‏؟‏ أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية‏؟‏ ما أعلم على وجه الأرض أهل قرية شرًا منهم‏.‏ فقال جبريل للملائكة‏:‏ احفظوا، هذه ثلاث، قد حق العذاب‏.‏ فلما دخلوا ذهبت عجوز السوء فصعدت فلوحت بثوبها، فأتاها الفساق يُهرَعون سراعا، قالوا‏:‏ ما عندك‏؟‏ قالت‏:‏ ضَيَّف لوطًا قوم ما رأيت قط أحسن وجوها منهم، ولا أطيب ريحًا منهم‏.‏ فهُرعوا يسارعون إلى الباب، فعالجهم لوط على الباب، فدافعوه طويلا هو داخل وهم خارج، يناشدهم الله ويقول‏:‏ ‏{‏هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ‏}‏ فقام الملك فَلَزّ بالباب -يقول فسده -واستأذن جبريل في عقوبتهم، فأذن الله له، فقام في الصورة التي يكون فيها في السماء، فنشر جناحه‏.‏ ولجبريل جناحان، وعليه وشاح من درّ منظوم، وهو براق الثنايا، أجلى الجبين، ورأسه حُبُكٌ حُبُك مثل المرجان وهو اللؤلؤ، كأنه الثلج، ورجلاه إلى الخضرة‏.‏ فقال يا لوط‏:‏ ‏{‏إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ‏}‏ امض يا لوط عن الباب ودعني وإياهم، فتنحى لوط عن الباب، فخرج إليهم، فنشر جناحه، فضرب به وجوههم ضربة شدخ أعينهم، فصاروا عُمْيًا لا يعرفون الطريق ‏[‏ولا يهتدون بيوتهم‏]‏ ثم أمر لوط فاحتمل بأهله في ليلته قال‏:‏ ‏{‏فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ‏}‏‏.‏

وروي عن محمد بن كعب ‏[‏القرظي‏]‏ وقتادة، والسدي نحو هذا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏82 - 83‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا‏}‏ وكان ذلك عند طلوع الشمس، ‏{‏جَعَلْنَا عَالِيَهَا‏}‏ وهي ‏[‏قريتهم العظيمة وهي‏]‏ سَدُوم ‏[‏ومعاملتها‏]‏ ‏{‏سَافِلَهَا‏}‏ كقوله ‏{‏‏[‏وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى‏]‏ فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏53، 54‏]‏ أي‏:‏ أمطرنا عليها حجارة من ‏"‏سجيل‏"‏ وهي بالفارسية‏:‏ حجارة من طين، قاله ابن عباس وغيره‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ أي من ‏"‏سنك‏"‏ وهو الحجر، و‏"‏كل‏"‏ وهو الطين، وقد قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏حِجَارَةً مِنْ طِينٍ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏33‏]‏ أي‏:‏ مستحجرة قوية شديدة‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ مشوية، ‏[‏وقال بعضهم‏:‏ مطبوخة قوية صلبة‏]‏ وقال البخاري‏.‏ ‏"‏سِجيل‏"‏‏:‏ الشديد الكبير‏.‏ سجيل وسجين واحد، اللام والنون أختان، وقال تميم بن مُقبِل‏:‏

وَرَجْلَةٍ يَضْربُون البَيْضَ ضَاحِيةٌ *** ضَرْبًا تواصَت به الأبطال سِجّينا

وقوله‏:‏ ‏{‏مَنْضُودٍ‏}‏ قال بعضهم‏:‏ منضودة في السماء، أي‏:‏ معدة لذلك‏.‏

وقال آخرون‏:‏ ‏{‏مَنْضُودٍ‏}‏ أي‏:‏ يتبع بعضها بعضا في نزولها عليهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏مُسَوَّمَةً‏}‏ أي مُعْلمَة مختومة، عليها أسماء أصحابها، كل حجر مكتوب عليه اسم الذي ينزل عليه‏.‏

وقال قتادة وعِكْرِمة‏:‏ ‏{‏مُسَوَّمَةً‏}‏ ‏[‏أي‏]‏ مُطَوّقة، بها نَضْحٌ من حُمّرٍة‏.‏

وذكروا أنها نزلت على أهل البلد، وعلى المتفرقين في القرى مما حولها، فبينا أحدهم يكون عند الناس يتحدّث، إذ جاءه حجر من السماء فسقط عليه من بين الناس، فدّمره، فتتبعهم الحجارة من سائر البلاد، حتى أهلكتهم عن آخرهم فلم يبق منهم أحد‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ أخذ جبريلُ قوم لوط من سَرْحهم ودورهم، حملهم بمواشيهم وأمتعتهم، ورفعهم حتى سمع أهل السماء نُباح كلابهم ثم أكفأهم ‏[‏وقال‏]‏ وكان حملهم على خوافي جناحه الأيمن‏.‏ قال‏:‏ ولما قلبها كان أول ما سقط منها شُذانها‏.‏

وقال قتادة‏:‏ بلغنا أن جبريل أخذ بعروة القرية الوسطى، ثم ألوَى بها إلى جو السماء، حتى سمع أهل السماء ضواغي كلابهم، ثم دمر بعضها على بعض، ثم أتبع شُذّاذ القوم سُخْرًا -قال‏:‏ وذكر لنا أنهم كانوا أربع قرى، في كل قرية مائة ألف -وفي رواية‏:‏ ‏[‏كانوا‏]‏ ثلاث قرى، الكبرى منها سَدُوم‏.‏ قال‏:‏ وبلغنا أن إبراهيم، عليه السلام، كان يشرف على سدوم، ويقول‏:‏ سدوم، يومٌ، ما لَك‏؟‏‏.‏

وفي رواية عن قتادة وغيره‏:‏ بلغنا أن جبريل عليه السلام، لما أصبح نشر جناحه، فانتسف به أرضهم بما فيها من قُصُورها ودوابها وحجارتها وشجرها، وجميع ما فيها، فضمها في جناحه، فحواها وطواها في جوف جناحه، ثم صعد بها إلى السماء الدنيا، حتى سمع سكان السماء أصوات الناس والكلاب، وكانوا أربعة آلاف ألف، ثم قلبها، فأرسلها إلى الأرض منكوسة، وَدَمْدَم بعضها على بعض، فجعل عاليها سافلها، ثم أتبعها حجارة من سجيل‏.‏

وقال محمد بن كعب القُرَظي‏:‏ كانت قرى قوم لوط خمس قريات‏:‏ ‏"‏سدوم‏"‏، وهي العظمى، و‏"‏صعبة‏"‏ و‏"‏صعوة‏"‏ و‏"‏عثرة‏"‏ و‏"‏دوما‏"‏، احتملها جبريل بجناحه، ثم صعد بها، حتى إنّ أهل السماء الدنيا ليسمعون نابحة كلابها، وأصوات دجاجها، ثم كفأها على وجهها، ثم أتبعها الله بالحجارة، يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ‏}‏ فأهلكها الله وما حولها من المؤتفكات‏.‏

وقال السدي‏:‏ لما أصبح قوم لوط، نزل جبريل فاقتلع الأرض من سبع أرضين، فحملها حتى بلغ بها السماء، حتى سمع أهل السماء الدنيا نباح كلابهم، وأصوات ديوكهم، ثم قلبها فقتلهم، فذلك

قوله ‏{‏وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 53‏]‏، ومن لم يمت حين سقط للأرض، أمطر الله عليه وهو تحت الأرض الحجارة، ومن كان منهم شاذا في الأرض يتبعهم في القرى، فكان الرجل يتحدث فيأتيه الحجر فيقتله، فذلك قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ‏}‏ أي‏:‏ في القرى حجارة من سجيل‏.‏ هكذا قال السدي‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ‏}‏ أي‏:‏ وما هذه النقمة ممن تَشَبَّه بهم في ظلمهم، ببعيد عنه‏.‏

وقد ورد في الحديث المروي في السنن عن ابن عباس مرفوعًا ‏"‏ من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به‏"‏‏.‏

وذهب الإمام الشافعي في قول عنه وجماعة من العلماء إلى أن اللائط يقتل، سواء كان محصنًا أو غير محصن، عملا بهذا الحديث‏.‏

وذهب الإمام أبو حنيفة ‏[‏رحمه الله إلى‏]‏ أنه يلقى من شاهق، ويُتبَع بالحجارة، كما فعل الله بقوم لوط، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ولقد أرسلنا إلى مدين -وهم قبيلة من العرب، كانوا يسكنون بين الحجاز والشام، قريبًا من بلاد معان، في بلد يعرف بهم، يقال لها ‏"‏مدين‏"‏ فأرسل الله إليهم شعيبا، وكان من أشرفهم نسبًا‏.‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أَخَاهُمْ شُعَيْبًا‏}‏ يأمرهم بعبادة الله تعالى وحده، وينهاهم عن التطفيف في المكيال والميزان ‏{‏إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ‏}‏ أي‏:‏ في معيشتكم ورزقكم فأخاف أن تُسلَبوا ما أنتم فيه بانتهاككم محارم الله، ‏{‏وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ‏}‏ أي‏:‏ في الدار الآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏85 - 86‏]‏

‏{‏وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ‏}‏

ينهاهم أولا عن نقص المكيال والميزان إذا أعطوا الناس، ثم أمرهم بوفاء الكيل والوزن بالقسط آخذين ومعطين، ونهاهم عن العيث في الأرض بالفساد، وقد كانوا يقطعون الطريق‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ رزق الله خَيْر لكم‏.‏

وقال الحسن‏:‏ رزق الله خير ‏[‏لكم‏]‏ من بخسكم الناس‏.‏

وقال الربيع بن أنس‏:‏ وصية الله خير لكم‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ طاعة الله ‏[‏خير لكم‏]‏‏.‏

وقال قتادة‏:‏ حظكم من الله خير لكم‏.‏

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ ‏"‏الهلاك‏"‏ في العذاب، و‏"‏البقية‏"‏ في الرحمة‏.‏

وقال أبو جعفر بن جرير‏:‏ ‏{‏بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ ما يفضُل لكم من الربح بعد وفاء الكيل والميزان ‏{‏خَيْرٌ لَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ من أخذ أموال الناس قال‏:‏ وقد روي هذا عن ابن عباس‏.‏

قلت‏:‏ ويشبه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏100‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ‏}‏ أي‏:‏ برقيب ولا حفيظ، أي‏:‏ افعلوا ذلك لله عز وجل‏.‏ لا تفعلوه ليراكم الناس، بل لله عز وجل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ‏}‏

يقولون له على سبيل التهكم، قَبَّحهم الله‏:‏ ‏{‏أَصَلاتُكَ‏}‏ ، قال الأعمش‏:‏ أي‏:‏ قرآنك ‏{‏تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا‏}‏ أي‏:‏ الأوثان والأصنام، ‏{‏أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ‏}‏ فنترك التطفيف على قولك، هي أموالنا نفعل فيها ما نريد‏.‏

‏[‏قال الحسن‏]‏ في قوله‏:‏ ‏{‏أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا‏}‏ إيْ والله، إن صلاته لتأمرهم أن يتركوا ما كان يعبد آباؤهم‏.‏

وقال الثوري في قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ‏}‏ يعنون الزكاة‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لأنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ‏}‏ قال ابن عباس، وميمون بن مِهْرَان، وابن جُرَيْج، وابن أسلم، وابن جرير‏:‏ يقولون ذلك -أعداء الله -على سبيل الاستهزاء، قبحهم الله ولعنهم عن رحمته، وقد فَعَلْ‏.‏